الأحد، 7 ديسمبر 2014

أين نحن في صراع العلمانية و الدين ؟

أين نحن في صراع العلمانية و الدين ؟

إن المعنى الجزئي للعلمانية هو إقصاء الدين و رجالاته عن أعمال الدولة السياسية و الأمنية و الإدارية بشكل غير مباشر أو مباشر في أحيان أخرى, ولكن المعنى الواسع للعلمانية هو إلغاء الدين عن الحياة الإجتماعية ككل . و إخفائه من أوجه حياتنا المعاشة بكل مراحلها و تفاصيلها .
أما الدين بمعناه البسيط و المفهوم فهو شعائر و طقوس معينة يتقرب فيها الناس إلى معبودهم . ولكن المعنى الأشمل والأجمل و الحقيقي للدين هو ذلك الانسجام و التآلف بين العبادات الشعائرية و العبادات التعاملية أي الأخلاق و حسن التعامل مع الناس على مبدأ حسن العلاقة في السر و العلن مع الله , و من هنا تبدأ المتاهة .
إذ أن عدم اكتمال هذه المعادلة بانتقاص أحد أركانها يولّد فراغاً لابد لشرٍ أن يستغله ليدخل إلى دائرة الدين و يخرّب فيها من الداخل , وهنا يأتي دور العلمانية في فرض وجهات نظر ذات معانِ ملفته و برّاقة و بالوقت نفسه قد تكون في بعضها مفسدة من حيث الهدف .
للأسف فإن مجتمعاتنا حتى هذه اللحظة تعطي تقييماً للأشخاص بناءاً على التزامهم بالعبادات الشعائرية و تهمل إلى حدٍ ما العبادات التعاملية , وهذا ليس من مقومات العلمانية بشكل أساسي , إذ أن للمتقيدين بإلحادهم مثلاً انتقادات لأفكار علمانية يؤكدها الدين , كما كان لاتجاهات علمانية تشكيك لبعض المعتقدات الدينية , مما كان له أثر سيء على مفهوم الدين عند الأجيال المتعاقبة و المتطورة بمفاهيمها جيلاً عن آخر , و نحن نرى رؤيا العين كيف أن بعض المتفلسفين من العلمانيين والذين يميلون للإلحاد أو لنبذ الدين يعتقدون أن أي شخص ذو أخلاق حسنة و طبع دمث فليكتفي بذلك , وليس من الضروري إتباعه أو التزامه بمسار الدين المكلّف به كل إنسان كفرض عين , فهذا الالتزام هو تحصيل حاصل بالنسبة لهم , و بتلك الأفكار السامة نحن حقاً نضيع و نفقد هويتنا الدينية و ركائز الاتصال مع الخالق ثم الخلق .
و نعود للتأكيد هنا على أهمية إكمال المعادلة الحياتية السليمة و السعيدة في فهم جوهر الدين و علاقتنا مع الله , و التي ذُكرت بالقرآن الكريم بشكلها الكامل دون شك في معناها و مغزاها ( الذين آمنوا و عملوا الصالحات ) و ذُكرت بمواقع كثيرة في كتاب الله تعالى كدليل على أهمية هذا التماشي و التناسق بين هذين الأمرين لإكمال مفهوم الحياة الحقيقية السعيدة , و الوصول بها إلى درجة الكمال الروحي و السمو بالنفس البشرية عن متاعب الدنيا , إذ أن لفهمنا صيرورة الدين بمعناه الروحاني و ليس العقائدي فقط يمكن أن يبني أساسات و مبادئ جوهرية لاستيعاب كل العقليات العلمانية منها و الإلحادية حتى بتفهمها بعيداً عن التشدد أو التعصب في التفكير , فإن معنى السمو الروحي الذي أقصده هو الابتعاد عن سفائف الأمور و الرؤيا السطحية للأمور الحياتية الناتجة عن عدم الوعي وثم الرقي بالنفس البشرية لأبعاد أخرى تأتي بعد معرفة أن الكل سواسية في الحقوق و الواجبات و لكن الأمر المختلف بينهم هو مدى ارتقائهم الأخلاقي و المعرفي والعلمي و الوجداني 
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) و من هنا تأتي الفروقات الطبقية لتفرض نفسها على الجميع و في تحديد مراتب الجميع , و إن عدنا لمعنى مفهوم العلمانية فقد وجِد على أساس إلغاء هذه الطبقية والتي نعترف بوجودها رغم كره البعض لها لأنها قد تفرض عليهم شيء لا يرغبون وجوده أو احترام أشخاص لا يولونهم الاهتمام فكانت العلمانية رداً على هذه الحتمية الطبقية التي تحدد أولويات الاحترام بين مستويات البشر , و كان السبب الأول لوجود هذه العلمانية هو الفهم الخاطئ للدين و مقوماته و آلية ممارسته,و لتأكيد صحة النظريات العلمية التي تفسر الحياة من حولنا دون الأخذ بالمراجع الدينية . و للعلمانية مؤيدون لهذا المنحى بالذات لأنهم رفضوا موضوع فرض الدين عليهم من قبل أناس قد لا يفقهون من الدين شيء إلا الشعائر فمثلاً : من فهِم الدين على أنه عبادة شعائرية فقط فيمكن أن يناله شيء من حب الذات و الذي يعتقده ( حصانه إلهية ) فلا يستطيع أحد مناقشته أو التواصل معه أو أن يسيء له بكلمة و كل ذلك بحجة أنه منزّه ولا يمكن صده , أو أنه له الحق بأن يهين أي شخص يراه لأنه أرقى و أكبر من أي شخص , و محمي من الله , ولذلك فإن فكرة محاربة الدين عند البعض بأساليب علمانية أو إلحادية أو فلسفية أو أياً كان فهي بأساسها ناتجة عن أولئك المتدينين الذين يعتقدون بأنهم وصلوا لدرجة الكمال الروحي و السمو النفسي في العلاقة مع الله و لذلك هم ينظرون لغيرهم نظرة ازدراء إن لم تكن نظرة احتقار أيضاً , و لذلك نشأت فكرة مجابهة المتشددين في الدين عبر طرق ثقافية و منطقية متحضرة ومقتبسة من بعض الأفكار الإلحادية و مأخوذة من بواطن شيوعية المنشأ , أو نظريات علمية تضحد المعتقد الديني (بزعمهم)
والواجب مجابهتهم بنفس الأسلوب الفكري الثقافي المتحضر , إذ أن للعلمانية أيادي تتحكم بعقليات و ثقافات أمم بحالها , ولنا أن نعتبر من دول إسلامية كثيرة رفضت حجاب المرأة بحجة التحرر و العلمانية أي عدم التفرقة بين الناس بالزي , ولكن من الثوابت التي يدّعيها العلمانيون أن حرية الفرد مقدسة و حرية الاعتقاد و الانتماء لا جدال فيها , فكيف يكون ذلك عند طرح موضوع ديني له أثاره الجلية على المجتمع و الأفراد , من هنا نعرف جيداً أن للعلمانية أهداف قائمة على نظريات علمية بحتة لا تؤمن بالتراث الديني , و من هنا أتت جدلية العلمانية مع الدين و مظاهره على كافة الأصعدة, و ليس بالضرورة أن ترتبط العلمانية بكل أوجهها بمعاني إلحادية , أو لإنكار وجود الله , و العلمانيون هم أصحاب منطق علمي محض , فلا يؤمنون بالأساطير أو الروحانيات أو ما شابه , إذ أنهم يعتقدون أنفسهم أنهم أصحاب نظريات أرقى من المستويات الفكرية الموجودة عند العامة و هم يمثلون النخبة التي تقود العوام , فهل مازال مجتمعنا مصدقاً أن العلمانية تقدس الإنسان , في حال أنها تحرمه من ممارسة دينه بالشكل الذي لا يضر به غيره , كما في سياسة بعض الدول التي تمنع ارتداء الحجاب بحجة العلمانية ,و هنا نتكلم عن تمسك العلمانيين بأفكارهم و معتقداتهم و التي تمثل المنطق الحقيقي عندهم و المجرد من الأوهام و المثل العاطفية , وهل ما زلنا نعتقد أن ثقافة الرأي الآخر و التي تنشرها العلمانية هي الأفضل لمجتمعنا و لرقينا الحضاري , و هل كل الثقافات المستوردة ستناسب أبنائنا و مجتمعاتنا , هنا لا أدعو إلى نبذ الأفكار التي تأتينا من الخارج ولكن هل لنا أن نتمعن فيها و نفهم حقيقتها قبل تطبيقها على تفاصيل حياتنا و نأخذ منها ما ينفعنا و ننبذ ما يؤذينا ؟
وأود أن أنوه بأن الله تعالى دعا إلى التقارب الثقافي والحضاري بأسس لها شروطها حين قال جلّ جلاله (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) الحجرات )13) , إذ قال لتعارفوا أي لنعرف ثقافات بعضنا و بنيتنا الفكرية و طبيعتنا النفسية والسلوكية , كبشر مختلفين بالإنتماءات و العقائد و مؤمنين بأن للعلمانية قواعد موجودة وقائمة على إثباتات علمية تعرّف الواقع و الحياة بكل جوانبها , وليس لنطبق كل المفاهيم على بيئتنا و ننسلخ من ثقافتنا بحجة تأكيد النظريات الفكرية الحديثة و التي تؤيد منطق العلمانية , ومن إيجابيات العلمانية أن نفهم عقلية و ثقافة الآخر ولكن ليس من الضروري إتباعها و تقليدها بشكل أعمى بعيداً عن الاستيعاب لحقيقة الاختلاف بيننا و بين الأمم الأخرى ,
و لفهم العلمانية كتفسير فلسفي و علمي لكل اتجاهات الحياة المعاصرة , يلزمنا الارتكاز على قاعدة دينية قويمة تؤكد صحة بعض المنطلقات التي ترسخ لها العلمانية في انتشارها على مختلف الأصعدة , و أيضاً رفض بعض التفسيرات الفلسفية التي تنادي بها بعض النظريات العلمانية و التي تسيء للمجتمع أو للدين بجوهره .
الكاتبة سوسن شمعون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق